فصل: (مسألة: النجاسة الذائبة إذا أصابت الأرض)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: أكل الكلب الطعام الجامد]

إذا أكل الكلب من طعامٍ جامدٍ.. فإنه يزال ما أصاب منه، أو يغسل سبعًا إحداهن بالتراب، وينتفع بالباقي من غير غسل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفأرة تقع في السمن: «إن كان ذائبًا.. فأريقوه، وإن كان جامدًا.. فألقوها وما حولها».

.[مسألة: في حكم الخنزير]

حكم الخنزير حكم الكلب، في جميع ما ذكرناه من الغسل.
وقال أبو العباس ابن القاص في " المفتاح ": قال الشافعي في القديم: (يغسل منه مرةً واحدةً).
وقال سائر أصحابنا: يغسل منه كالكلب، قولاً واحدًا. والذي قاله في القديم مطلقٌ، وأراد به: السبع؛ لأنه حيوانٌ نجسٌ في حياته، فهو كالكلب.

.[مسألة: بول الغلام الصغير]

بول الصبي والصبية اللذين لم يطعما الطعام نجسٌ، كبول الذي يطعم الطعام، خلافًا لداود في بول الصبي، وقد مضى.
إذا ثبت هذا: فلا خلاف على المذهب: أنه يجب الغسل منهما، ولكنهما مختلفان في كيفية الغسل: فيجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح، وهو: أن يبل موضعه بالماء، وإن لم ينزل عنه.
وفي بول الصبية وجهان، ومنهم من يقول: هما قولان:
أحدهما: يجزئ فيه النضح، كبول الغلام.
والثاني: يجب غسله، كسائر الأبوال. وهو المشهور.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجب غسل بول الصبي، كسائر الأبوال).
دليلنا: ما روي: «أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بال على ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرشه، فقيل له: ألا تغسل ثوبك؟! فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنما يغسل بول الجارية، ويرش بول الغلام».
وروي عن علي كرم الله وجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام».
قال أصحابنا: ولأن الغلام يبلغ بطاهر وهو: المني والجارية تبلغ بنجس ـ وهو: الحيض ـ فاختلفا في تطهير بولهما. وأيضًا: فإن البول يختلف في الإزالة والتطهير: فمنه ما يحتاج في تطهيره إلى ماء كثير، وهو: بول المحرور فإن بوله ثخين أصفر، له رائحة، فلا يزول إلا بماء كثير.
وبول المرطوب: أبيض رقيق، لا رائحة له، يزول بماء قليل.
وإذا كان كذلك.. فقيل: إن بول الجارية أصفر ثخينٌ، وبول الغلام أبيض رقيق، فاختلفا في باب الإزالة.

.[مسألة: في أنواع النجاسات]

وما سوى ذلك من النجاسات.. ينظر فيها:
فإن كانت ذائبة.. غسل موضعها.
وإن كانت جامدة.. أزيلت، ثم غسل موضعها.
والمستحب: أن يغسل ذلك ثلاث مراتٍ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه.. فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا».
فإذا شرع ذلك في النجاسة التي يشك فيها.. فلأن يشرع في النجاسة المتيقنة أولى.
والواجب من ذلك: مرةٌ واحدةٌ.
وقال أحمد: (يجب في جميع النجاسات سبع مراتٍ).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض يصيب الثوب: «حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء». ولم يعتبر العدد.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام». ولم يعتبر العدد.
وروي عن ابن عمر: أنه قال: «كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة والبول سبع مراتٍ، فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يراجع ربه ليلة أسري به، حتى جعلت الصلاة خمسًا، والغسل من الجنابة والبول من الثوب مرةً».

.[فرع: نجاسة الأرض]

فإن أصابت الأرض نجاسةٌ ذائبةٌ وكاثرها بالماء.. أجزأه.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت الأرض رخوة ينزل فيها الماء، وصب عليها الماء.. أجزأه. وإن كانت صلبة.. لم يجزئه إلا حفرها، ونقل التراب).
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن أعرابيًا دخل المسجد، فقال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد تحجرت واسعًا. فما لبث أن قام إلى زاوية من المسجد، فبال فيها، فابتدره أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دعوه، ثم دعا بذنوب من ماءٍ، فأراقه عليه، وقال: علموا، ويسروا ولا تعسروا» و (الذنوب): هو الدلو الكبير، قال الشاعر:
لنا ذنوبٌ ولكم ذنوبُ ** فإن أبيتم فلنا القليب.

والسجل: مثله، والغرب: دونه، والقليب: البئر.
وفي قدر المكاثرة وجهان:
أحدهما: لا يطهر حتى يصب على النجاسة سبعة أضعافها من الماء؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ويصب الماء على البول سبعة أضعافه).
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أن قدر المكاثرة: هو أن يصب على النجاسة ماءٌ يغمرها ويستهلكها، مما يذهب بلونها ورائحتها، وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا في "الأم" [1/44]. وأما قوله: (يصب الماء على البول سبعة أضعافه): فليس على سبيل التقدير، بل أراد على حكم الغالب، وأن البول لا يذهب برائحته ولونه إلا هذا القدر.
وإن بال في الأرض اثنان.. ففيه وجهان:
الأول: من أصحابنا من قال: يجب لبول كل واحد ذنوبٌ؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وإن بال اثنان.. لم يطهره إلا ذنوبان).
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يكفي فيه المكاثرة، على ما ذكرناه؛ لأن ذلك يؤدي إلى التناقض، بأن يطهر البول الكثير من واحد بذنوب، وما دون ذلك من اثنين لا يطهر إلا بذنوبين. وكلام الشافعي محمول على حكم الغالب في العادة، وأن بول الواحد لا يغمره إلا ذنوبٌ، وبول الاثنين لا يغمره إلا ذنوبان.
وإن أصابت الأرض نجاسةٌ مستحسةٌ، كالعذرة، والسرجين، ولحم الميتة، وفي أحدهما رطوبةٌ.. فتطهير الأرض يحصل بأن تزال عنها الأعيان النجسة، ثم يطهر موضعها، إما بأن يقلع التراب الذي بلغت إليه رطوبة النجاسة، أو بأن يغسل على ما ذكرناه في الذائبة.
وإن طين على النجاسة بطينٍ طاهرٍ، أو بترابٍ طاهر، وصلى فوق ذلك.. صح مع الكراهة، كالمقبرة التي لم تنبش.
وإن اختلطت العذرة بالتراب، ولم تتميز.. فإنها لا تطهر بصب الماء عليها؛ لأن أعيان النجاسة لا تطهر بالماء، وإنما تطهر بأن يزال ذلك التراب الذي بلغت إليه رطوبة العذرةِ. أو بأن يطرح عليها ما يغطيها من التراب أو الطين، فإذا صلى فوقها.. كره، وصحت صلاته، كالمقبرة التي لم تنبش.

.[فرع: مكاثرة النجاسة بالماء]

وإن كانت النجاسة على الأرض، فكاثرها بالماء.. فهل يحكم بطهارتها قبل أن ينشفها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحكم بطهارتها؛ لأن الطهارة تتعلق بالمكاثرة، وقد وجدت.
والثاني: لا يحكم بطهارتها حتى تنشف؛ لأنه لا يتحقق ذهاب النجاسة إلا بذلكٍ. والأول أصحُ. وإن كانت على ثوبٍ، فكاثرها بالماء.. فهل يحكم بطهارته قبل العصر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحكم بطهارته، كالأرض إذا كوثرت.
والثاني: لا يحكم بطهارته حتى يعصر؛ لأن العصر ممكن فيه، بخلاف الأرض. والأول أصح. وإن كانت النجاسة في إناء، فصب عليها ماء غمر النجاسة.. فهل يحكم بطهارته قبل أن يصب ما فيه؟ أو كان في الإناء شيءٌ، وفيه نجاسةٌ.. فهل تجزيء فيه المكاثرة قبل إراقة ما فيه؟ على وجهين:
أحدهما: يحكم بطهارته قبل إراقة ما كاثره به، وتجزئ فيه المكاثرة قبل إراقة ما فيه، كالأرض النجسة إذا كاثرها بالماء.
والثاني: لا يحكم بطهارته قبل الصب والإراقة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكلب يلغ في الإناء: «فليهرقه، ثم ليغسله سبع مراتٍ». ولأنه يمكن إراقة ما في الإناء، فلم يحكم بطهارته قبل ذلك. والأول أصح.

.[فرع: التلوث بنجاسة الخمر]

وإن كانت النجاسة خمرًا، فغسل ما أصابته، وبقي لونها.. لم يحكم بطهارة ما أصابته؛ لأن بقاء اللون يدل على بقاء عين الخمر.
وإن ذهب لونها، وبقي ريحها.. ففيه قولان ـ قال صاحب "العدة": وقاس أصحابنا بول المبرسم على الخمر إذا بقي ريحه؛ لأن له رائحةً كريهةً ـ:
أحدهما: لا يحكم بطهارة الموضع؛ لأن بقاء الرائحة يدل على بقاء شيءٍ من عينها، فهو كما لو بقي اللون.
والثاني: يحكم بطهارته؛ لأن رائحته قد تعبق وإن لم يبق شيء من العين، بخلاف اللون.
فإن بقي ريح غير الخمر.. فسائر أصحابنا قالوا: لا يحكم بطهارة المحل، قولاً واحدًا.
وقال صاحب "الفروع"، و" التلخيص ": هي على قولين، كالخمر.
وإن أصاب الثوب دم الحيض، أو غيره من الدماء.. فالمستحب: أن يحته بعود أو عظم، ثم يقرصه بين إصبعيه، ثم يغسله؛ لما ذكرناه في حديث أسماء.
فإن غسله من غير قرصٍ ولا حتً.. أجزأه.
وقال أهل الظاهر: لا يجزئه.
دليلنا: أن المقصود غسله وإزالة عينه، وقد وجد.
فإن غسله، وبقي له أثر لم يزله الماء، ولا يزول إلا بالقطع.. عفي عنه، وكذلك الحكم في كل نجاسة غسلت، وبقي لها أثر لا يزول إلا بالقطع.. فإنه يعفى عنها.
وروي عن ابن عمر: (أنه كان يدعو بالجلم فيقطعه).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخولة بنت يسار: «الماء يكفيك، ولا يضرك أثره».
وروي: أن معاذة العدوية سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن ذلك؟ فقالت: «اغسليه بالماء، فإن لم يذهب فغيريه بالصفرة، ولقد كنت أحيض عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث حيضٍ، ولا أغسل لي ثوبًا».
وروي: أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: (كنا نغسل الثوب من دم الحيض، فيبقى لونه، فنلطخه بالحناء).
وإن غمس الثوب النجس في إناء فيه ماءٌ دون القلتين.. نجس الماء، ولم يطهر الثوب فيه.
ومن أصحابنا من قال: إن قصد إلى إزالة النجاسة بذلك.. طهر الثوب.
والأول أصح؛ لأنه ماءٌ قليلٌ قد وردت عليه النجاسة، والقصد غير معتبر في إزالة النجاسة، ولهذا يطهر الثوب بغسل المجنون، وبماء المطر.

.[فرع: غسل بعض الثوب النجس]

حكى الشيخ أبو حامدٍ، والمحاملي، وصاحب "الإفصاح": أن أبا العباس ابن القاص قال: إذا كان الثوب كله نجسًا، فغسل نصفه، ثم عاد إلى ما بقي، فغسله.. فإنه لا يطهر حتى يغسله كله. قال: لأنه إذا غسل نصفه.. فالجزء الرطب الذي يلاصق الجزء اليابس النجس ينجس به؛ لأنه يلاصق ما هو نجسٌ، ثم الجزء الذي بعده ينجس بملاصقته الجزء الأول، ثم الذي بعده ينجس بملاصقته، حتى تنجس الأجزاء بعضها ببعض إلى آخر الثوب.
وقال الشيخ أبو حامدٍ: غلط أبو العباس، بل يطهر الثوب؛ لأن الجزء الذي يلاصق ذلك الجزء النجس من الثوب ينجس به؛ لأنه لاقى عين النجاسة. فأما الجزء الذي يلاصق ذلك الجزء: فإنه لا ينجس به؛ لأنه لاقى ما هو نجسٌ حكمًا لا عينًا، ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الفأرة تقع في السمن؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن كان جامدًا.. فألقوها وما حولها».
فحكم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بنجاسة الجزء الذي يلاصق الفأرة من السمن، دون سائر الأجزاء، فعلم بهذا: أن الجزء الذي يلاصق عين النجاسة ينجس به، وما لاقى ذلك الجزء لا ينجس. ولو كان الحكم كما ذكر ابن القاصَ.. لوجب أن ينجس السمن كله.
وأما ابن الصباغ: فحكى: أن ابن القاص قال: إذا غسل نصفه في جفنةٍ، ثم عاد إلى ما بقي فغسله.. لم يطهر حتى يغسله كله. وحكى عن أبي العباس العلة التي حكاها عنه الشيخ أبو حامدٍ.
قال ابن الصباغ: والأمر على ما قاله أبو العباس، إلا أنه أخطأ في الدليل، بل الدليل على صحة ما ذهب إليه: أن الثوب إذا وضع نصفه في الجفنة، وصب عليه ماءٌ يغمره.. فلا بد أن يكون هذا الماء ملاقيًا لجزء مما يغسله من الثوب، وذلك الجزء نجسٌ واردٌ على ماءٍ قليلٍ فينجسه، وإذا نجس الماء.. نجس الثوب.
والذي يتبين لي من هذا: أنهما مسألتان:
فإن غسل نصفه في جفنةٍ.. فالأمر على ما قاله ابن الصباغ.
وإن غسل نصفه بصب الماء عليه من غير جفنةٍ.. فكما قال الشيخ أبو حامدٍ.

.[مسألة: في طهارة المصقول]

إذا أصابت النجاسة الأشياء الصقيلة، كالمرآة والسكين، والسيف.. لم تطهر بالمسح، وإنما تطهر بالغسل.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (تطهر بالمسح).
دليلنا: أنه محلٌ نجسٌ، فلم يطهر بالمسح، كالثوب.
وإن بل خضابًا ببول أو خمرٍ أو دمٍ، وخضب به شعره أو بدنه، فغسله وبقي اللون.. فإن كان الباقي لون النجاسة.. لم يطهر.
وإن كان لون الخضاب.. فيه وجهان، حكاهما الشاشي.
قال: فإذا قلنا: إنه نجسٌ، وكان الخضاب في الشعر.. لم يلزمه حلقه. ويصلي، فإذا ذهب الخضاب.. أعاد الصلاة. وإن كان في بدنه، وكان لا يذهب، كالوشم، وخاف التلف من إزالته.. ففيه وجهان.
وإن سقى سكينًا بماءٍ نجسٍ ثم غسله.. طهر ظاهره. وهل يطهر باطنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يطهر إلا أن يسقيه مرةً ثانيةً بماءٍ طاهرٍ.
والثاني: يطهر بغسل ظاهره؛ لأن الماء هو المطهر دون النار.
وإن طبخ لحمًا بماءٍ نجسٍ.. صار ظاهره وباطنه نجسًا. وكيف يطهر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يطهر بأن يغليه مرةً أخرى بماءٍ طاهرٍ.
والثاني: يكاثره، ثم يعصره، كالبساط.
وإن ابتلعت بهيمةٌ حباتٍ من طعامٍ، فألقتها.. فقد قال بعض أصحابنا: إن كانت بحيث إذا زرعت نبتت.. غسل ظاهرها. وإن كانت بحيث إذا زرعت لم تنبت.. لم تطهر. قال الشاشي: وهذا فيه نظرٌ بل هو بمنزلة ما طبخ بماءٍ نجسٍ.

.[مسألة: النجاسة الذائبة إذا أصابت الأرض]

إذا أصابت الأرض نجاسةٌ ذائبةٌ، فطلعت عليها الشمس، وهبت عليها الريح حتى ذهب لونها وأثرها وريحها.. ففيه قولان:
الأول: قال في القديم: (تطهر). وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف؛ لأن الأرض مع الشمس والريح يحيلان الشيء عن طبعه، فكان تأثيرها أكثر من تأثير الماء. ولأنها إذا جفت.. لم يبق شيء من النجاسة، أو يبقى الشيء القليل، فعفي عنه.
والثاني: قال في الجديد: (لا تطهر). وبه قال مالك، وهو الصحيح؛ لأنه محل نجسٌ، فلا يطهر بالشمس، كالثوب.
وأما إذا ذهب لون النجاسة وريحها بالظل.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا تطهر الأرض، قولاً واحدًا؛ لأنه ليس للظل قوة كقوة الشمس.
وقال الخراسانيون: إن قلنا: إن الأرض لا تطهر بالشمس.. فالظل أولى أن لا تطهر به.
وإن قلنا: تطهر بالشمس.. ففي الظل وجهان.

.[فرع: حكم ضرب اللبن بتراب نجس]

إذا ضرب لبن من تراب فيه نجاسةٌ ذائبةٌ، مثل: البول، والخمر.. فإن اللبن نجسٌ. فإن أراد تطهيره قبل الطبخ، فإن كاثر ظاهره بالماء.. طهر ظاهره، ولا يطهر باطنه إلا بأن يفت، ثم يكاثره بالماء، أو يصب عليه من الماء ما يغمره ويتهرى في الماء.
وإن طبخ هذا اللبن، فإذا كاثر ظاهره بالماء.. طهر، فإن خرج البذاء من الجانب الآخر.. طهر باطنه أيضًا.
فإن خلط بطينه نجاسةً مستجسدةً مثل: السرجين، والعذرة، فما دام لبنًا لم يطبخ.. فإنه لا يطهر بالغسل؛ لأن الأعيان النجسة لا تطهر بالغسل.
فإن طبخ هذا اللبن.. فهل يطهر بذلك من غير غسل؟
المشهور من المذهب: أنه لا يطهر.
وخرج الخضري قولاً آخر: أنه يطهر قبل أن يغسل. وأخذه من أحد قولي الشافعي في الشمس إذا طلعت على الأرض التي أصابتها نجاسةٌ ذائبةٌ، وأذهبت لونها وأثرها وريحها.
فإذا قلنا: لا يطهر بالطبخ، فغسل ظاهر هذا اللبن.. فهل يحكم بطهارة ظاهره؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول القفال، وابن المرزبان، واختيار ابن الصباغ ـ: أنه يطهر؛ لأن النار أحرقت النجاسة، وإنما يبقى أثرها، فإذا مر عليها الماء.. طهرها.
والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه لا يطهر؛ لأن النار لا تطهر النجاسة عندنا.
فإذا قلنا: إنه طاهرٌ، وكسر موضعٌ منه.. فما ظهر بالكسر نجسٌ، فلا يطهر بالغسل، وتصحُ الصلاة على ما لم يكسر منه، ولكنها مكروهةٌ، كما لو صلى على مقبرة لم تنبش. ويكره أن يبنى به المسجد.
وإن حمله المصلي.. فهل تصح صلاته؟
فيه وجهان، كما لو حمل قارورة فيها نجاسةٌ، وقد سد رأسها بصفرٍ أو نحاسٍ.

.[مسألة: حكم الخف الذي تصيبه النجاسة]

إذا أصاب أسفل الخف نجاسةٌ، فدلكه على الأرض، فأزال عينها وبقي أثرها، فإن كانت رطبةً.. لم يجز؛ لأنها تزول بالدلك في حال رطوبتها عن محلها إلى غيره من الخف.
وإن أصابت الخف وهي رطبةٌ، فجفت عليه، ثم دلكها عن الخف، فأزال عينها وبقي الأثر.. فإنه لا يحكم بطهارة الخف قولاً واحدًا. وهل يعفي عن ذلك الأثر؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يعفى عنه، وتصحُ صلاتهُ وهو لابسٌ لهُ).
وبه قال أبو حنيفة؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد.. فلينظر نعليه: فإن كان فيهما خبثٌ.. فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما». ولأنه موضع تتكرر فيه النجاسة، فأجزأ فيه المسح، كموضع الاستنجاء.
والثاني: قال في الجديد: (لا يعفى عنه). وهو الصحيح؛ لأنه ملبوسٌ نجسٌ، فلا يطهر إلا بالغسل، كالثوب. هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق.
وأما الشيخ أبو حامد، والمحاملي.. فقالا: إذا أصاب أسفل الخفَ نجاسةٌ، فدلكه بالأرض، حتى ذهبت عينها.. فهل تصح الصلاة به؟ فيه قولان: الصحيح: لا تصحُ. ولم يفصلا. والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق.

.[كتاب الصلاة]

الصلاة في اللغة: عبارة عن الدعاء، قال الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]؛ أي: ادع لهم.
وقال الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ** يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا.

عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي ** يومًا فإن لجنب المرء مضطجعا.

يقول: عليكِ مثل الذي دعوت.
وأما في الشرع: فقد نقل هذا الاسم إلى أقوال وأفعال مخصوصة، وهي: التكبير، والقراءة، والركوع، والسجود، والتشهد، وغير ذلك. فإذا وردت الصلاة في الشرع.. فإنما تنصرف إلى الصلاة الشرعية دون اللغوية.
إذا ثبت هذا: فإن الصلاة واجبة، والأصل - في وجوبها -: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110].
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5].
وقَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]. وغير ذلك من الآيات.
وأما السنة: فما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا». وغير ذلك من الأخبار.
وأجمعت الأمة على وجوب الصلاة.
إذا ثبت هذا: فإن أول ما افترض الله تعالى من الصلاة قيام نصف الليل، أو دونه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4]. ثم نسخ ذلك، وخففه بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. يريد: صلوا ما تيسر.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (كان بين أول السورة وآخرها سنة، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس). وقيل نسخ بقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]. واستقر الفرض على الصلوات الخمس ليلة الإسراء.
والدليل عليه: ما روي - في حديث المعراج -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فرض الله تعالى على أمتي خمسين صلاة، فلما لقيت موسى بن عمران - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.. فقال: ما فعل معك ربك؟ فقلت: فرض على أمتي خمسين صلاة، فقال: ارجع، فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعته، فنقصني خمسًا - وفي رواية: فوضع شطرها - فما زلت أتردد بين ربي وموسى، حتى جعلها خمس صلوات، فقال موسى: ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فقلت: أستحيي، فإذا النداء - من عند الله تعالى -: ألا إني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وجعلت الحسنة بعشر أمثالها، هي خمس، وهن خمسون، ما يبدل القول لدي، وما أنا بظلام للعبيد».
وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «افترض الله تعالى على عباده خمس صلوات، فمن جاء بهن، فأحسن وضوءهن، وأتم ركوعهن وخضوعهن وخشوعهن... كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة. ومن لم يأت بهن، وضيّع حقوقهن.. لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له».
وروي: «أن أعرابيًا دخل المسجد، وسأل عن الإسلام؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل علي غيرها؟ فقال: لا، إلا أن تطوع».
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم تُغْشَ الكبائر».